فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه سخر البحر. أي ذلله لعباده حتى تمكنوا من ركوبه، والانتفاع بما فيه من الصيد والحلية، وبلوغ الأقطار التي تحول دونها البحار، للحصول على أرباح التجارات ونحو ذلك.
فتسخير البحر للركوب من أعظم آيات الله. كما بينه في مواضع آخر. كقوله: {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الفلك المشحون وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس: 41-42]، وقوله: {الله الذي سَخَّرَ لَكُمُ البحر لِتَجْرِيَ الفلك فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الجاثية: 12]. إلى غير ذلك من الآيات.
وذكر في هذه الآية أربع نعم من نعمه على خلقه بتسخير البحر لهم:
الأولى: قوله: {لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} وكرر الامتنان بهذه النعمة في القرآن. كقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96]. الآية، وقوله: {وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيّا} [فاطر: 12]. الآية.
الثانية- قوله: {وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} وكرر الامتنان بهذه النعمة أيضًا في القرآن. كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 22-23]، واللؤلؤ والمرجان: هما الحليه التي يستخرجونها من البحر للبسها، وقوله: {وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر: 12].
الثالثة- قوله تعالى: {وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ} وكرر في القرآن الامتنان بشق أمواج البحر على السفن، كقوله: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ} [يس: 42-43]. الآية، وقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك لِتَجْرِيَ فِي البحر بِأَمْرِهِ} [إبراهيم: 32].
الرابعة- الابتغاء من فضله بأرباح التجارات بواسطة الحمل على السفن المذكور في قوله هنا: {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أي كأرباح التجارات، وكرر في القرآن الامتنان بهذه النعمه أيضًا. كقوله في سورة البقرة: {والفلك التي تَجْرِي فِي البحر بِمَا يَنفَعُ الناس} [البقرة: 164]، وقوله في فاطر: {وَتَرَى الفلك فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [فاطر: 12]، وقوله في الجاثية: {الله الذي سَخَّرَ لَكُمُ البحر لِتَجْرِيَ الفلك فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الجاثية: 12]. إلى غير ذلك من الآيات.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة:
المسألة الأولى:
لا مفهوم مخالفة لقوله: {لَحْمًا طَرِيًّا} فلا يقال: بفهم من التقييد بكونه طريًا أن اليابس كالقديد مما في البحر لا يجوز أكله. بل يجوز أكل القديد مما في البحر بإجماع العلماء.
وقد تقرر في الأصول: أن من موانع اعتبار مفهوم المخالفة كون النص مسوقًا للامتان. فإنه إنما قيد بالطري لأنه أحسن من غيره، فالامتنان به أتم.
وقد أشار إلى هذا صاحب مراقي السعود بقوله عاطفًا على موانع اعتبار مفهوم المخالفة:
أو امتنان أو وفاق الواقع ** والجهل والتأكيد عند السامع

ومحل الشاهد قوله أو امتنان وقد قدمنا هذا في سورة المائدة.
المسألة الثانية:
اعلم أن علماء المالكية قد أخذوا من هذه الآية الكريمة: أن لحوم ما في البحر كلها جنس واحد. فلا يجوز التفاضل بينها في البيع، ولا بيع طريها بيابسها لأ، ها جنس واحد.
قالوا: لأن الله عبر عن جميعها بلفظ واحد، وهو قوله في هذه الآية الكريمة: {وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا} وهو شامل لما في البحر كله.
ومن هنا جعل علماء المالكية، للحوم أربعة أجناس لا خامس لها:
الأول: لحم ما في البحر كله جنس واحد، لما ذكرنا.
الثاني: لحوم ذوات الأربعمن الأنعام والوحوش كلها عندهم جنس واحد. قالوا: لأن الله فرق بين أسمائها في حياتها فقال: {مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين} [الأنعام: 143]، ثم قال: {وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين} [الأنعام: 144]. أمّا بعد ذبحها فقد عبر عنها باسم واحد فقال: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام} [المائدة: 1]. فجمعها بلحم واحد، وقال كثير من العلماء: يدخل في بهيمة الأنعام الوحش كالظباء.
الثالث: لحوم الطير بجميع أنواعها جنس واحد. لقوله تعالى: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة: 21]. فجمع لحومها باسم واحد.
الرابع: الجراد هو جنس واحد عندهم، وقد قدمنا في سورة البقرة الإشارة إلى الاختلاف في ربويته عندهم، ومشهو مذهب مالك عدم ربويته، بناء على أن غلبة العيش بالمطعوم من أجزاء العلة في الربا. لأن علة الربا في الربويات عند مالك: هي الاقتيات والادخار. قيل: وغلبة العيش، وقد قدمنا: أن الاختلاف في اشتراط غلبة العيش تظهر فائدته في أربعة أشياء: وهي الجراد، والبيض، والتين، والزيت، وقد قدمنا تفصيل ذلك في سورة البقرة.
فإذا علمت ذلك- فاعلم أن كل جنس من هذه الأجناس المذكورة يجوز بيعه بالجنس الآخر متفاضلا يدًا بيد، ويجوز بيع طريه بيابسه يدًا بيد أيضًا في مذهب مالك رحمه الله تعالى.
ومذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله: أن اللحوم تابعة لأصولها، فكل لحم جنس مستقل كأصله- فلحم الإبل عنده جنس مستقل، وكذلك لحم الغنم ولحم البقر، وهكذا. لأن اللحوم تابعة لأصولها وهي مختلفة كالأدقة والأدهان.
أما مذهب الشافعي وأحمد في هذه المسألة- فكلاهما عنه فيها روايتان. أما الروايتان عن الشافعي فإحداهما- أن اللحوم كله جنس واحد لاشتراكها في الاسم الخاص الذي هو اللحم. الثانية- أنها أجناس كأصولها: كقول أبي حنيفة.
وقال صاحب المهذب: إن هذا قول المزني وهو الصحيح.
وأما الروايتان في مذهب الإمام أحمد فإحداهما- أن اللحوم كلها جنس واحد، وهو ظاهر كلام الخرقي، فإنه قال: وسائر اللحمان جنس واحد. قال صاحب المغني: وذكره أبو الخطاب وابن عقيل رواية عن أحمد. ثم قال: وأنكر القاضي أبو يعلى كون هذا رواية عن أحمد، وقال: الأنعام والوحوش والطير ودواب الماء أجناس، يجوز التفاضل فيها رواية واحدة، وإنما في اللحم روايتان.
إحداهما- أنه أربعة أجناس كما ذكرنا. الثانية- أنه أجناس باختلاف أصوله. انتهى من المغني بتصرف يسير، بحذف ملا لا حاجة له فهذه مذاهب الأربعة في هذه المسألة.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: اختلاف العلماء في هذه المسألة من الاختلاف. في تحقيق مناط نص من نصوص الشرع، وذلك أنه ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «فإذا اختلفت هذه الأصناف فيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد» فعلم أن الاختلاف الصنفين مناط جواز التفاضل، واتحادهما مناط منع التفاضل، واختلاف العلماء في تحقيق هذا المناط. فبعضهم يقول: اللحم جنس واحد يعبر عنه باسم واحد، فمناط منع التفاضل غير موجود، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثالثة:
لا يجوز بيع اللحم بالحيوان الذي يجوز أكله من جنسه.
وهذا مذهب أكثر العلماء: منهم مالك والشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز بيع اللحم بالحيوان. لأن الحيوان غير ربوي، فأشبه بيع باللحم بيع اللحم بالإثمان.
واحتج الجمهور بما رواه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم عن سعبد بن المسيب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان، وفي الموطأ أيضًا عن مالك عن داود بن الحصين: أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: من ميسر أهل الجاهلية بيع الحيوان باللحم بالشاة والشاتين، وفي الموطأ أيضًا عن مالك عن أبي الزناد عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: نهى عن بيع الحيوان باللحم. قال أو الزناد: فقلت لسعيد بن المسيب: أرأيت رجلا اشترى شارفًا بعشر شياه؟ فقال سعيد: إن كان اشتراها لينحرها فلا خير في ذلك. قال أبو الزناد: وكل من أدركت من الناس ينهون عن بيع الحيوان باللحم. قال أبو الزناد: وكان ذلك يكتب في عهود العمال في زمان أبان ابن عثمان وهشان بن إسماعيل ينهون عن ذلك اه من الموطأ.
وقال ابن قدامة في المغني: لايختلف المذهب أنهلا يجوز بيع اللحم بحيوان من جنسه، وهو مذهب مالك والشاقعي، وقوله فقهاء المدينة السبعة، وحكي عن مالك: أنه لا يجوز بيع اللحم بحيوان معد للحم ويجوز بغيره، وقال أبو حنفية: يجوز مطلقًا لأنه باع مال الربا بما لا ربا فيه. فأشبه بيع اللحم بالدراهم، أو بلحم من غير جنسه ولنا ما روي: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن بيع اللحم بالحيوان» رواه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم، وعن سعيد بن المسيب، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن عبد البر: هذا أحسن أسانيه.
وروي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: «أنه نهى أن يباع حي بميت» ذكره الإمام أحمد، وروي عن ابن عباس: أن جزورًا نحرت فجاء رجل بعناق فقال أعطوني جزءًا بهذه العناق، فقال أبو بكر: لا يصلح هذا قال الشافعي: لا أعلم مخالفًا لأبي بكر في ذلك، وقال أبو الزناد: كل من أدركت ينهى عن بيع اللحم بالحيوان، ولأن اللحم فيه الربا بيع بأصله الذي فيه مثله فلم يجز. كبيع السمسم بالشيرج اه.
وقال صاحب المهذب: ولا يجوز بيع حيوان يؤكل لحمه بلحمه، لما روى سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يباع حي بميت» وروى ابن عباس رضي الله عنهما: أن جزورًا نحرت على عهد أبي بكر رضي الله عنه. فجاء رجل بعناق فقال: أعطوني بها لحمًا فقال أبو بكر: لا يصلح هذا، ولأنه جنس فيه الربا بيع بأصله الذي فيه مثله فلم يجز كبيع الشيرج بالسمسم اهـ.
قال ابن السبكي في تكلمته لشرح المهذب:
حديث سعيد بن المسيب رواه أبو داود من طريق الزهري عن سعبد كما ذكره المصنف، ورواه مالك في الموطأ، والشعفعي في المختصر والأم، وأبو داود من طريق زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان» هذا لفظ الشافعي عن مالك، وأبي داود عن القعنبي عن مالك، وكذلك هو في موطأ ابن وهب، ورأيت في موطأ القعنبي عن بيع الحيوان باللحم، والمعنى واحد، وكلا الحديثين- أعني رواية الزهري وزيد بن أسلم- مرسل، ولميسنده واحد عن سعيد، وقد روي من طرق أخرن منها عن الحسن عن سمرة: «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم نهى ان تباع الشاة باللحم» رواه الحاكم في المستدرك وقال: رواته عن آخرهم أئمة حفاظ ثقات، وقد احتج ابخاري بالحسن عن سمرة، وله شاهد مرسل في الموطأ، هذا كلام الحاكم، ورواه البيهقي في سننه الكبير وقال: هذا إسناد صحيح، ومن أثبت سماع الحسن عن سمرة عده موصولًا، ومن لم يثبته فهو مرسل جيد انضم إلى مرسل سعيد، ومنها عن سهل بن سعد قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع اللحم بالحيوان» رواه الدارقطني وقال: تفرد به يزيد بن مروان عن مالك بهذا اسناد ولم يتابع عليه، وصوابه في الموطأ عن ابن المسيب مرسلًا، وذكره البهقي في سننه الصغير، وحكم بأن ذلك من غلط يزيد بن مروان، ويزيد المذكور تلكم فيه يحيى بن معين، وقل ابن عدي: وليس هذا بذلك المعروف، ومنها عن ابن عمر رضي الله عنهما ان النَّبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن بيع الحيوان باللحم» قال عبد الحق: أخرجه البزار في مسنده من رواية ثابت بن زهير عن مافع، وثابت رجل من أهل البصرة منكر الحديث لا يستقل به.
ذكره أبو حاتم الرازي. انتهى محل الغرض من كلام صاحب تكلمة المجموع.
قال مقيده عفا الله عنه: لا يخفى أن هذا الذي ذكرنا يثبت به منع بيع اللحم بالحيوان. أما على مذهب من يحتج بالمرسل كمالك وأبي حنيفة وأحمد فلا إشكال وأما على مذهب من لا يحتج بالمرسل فمرسل سعيد بن المسيب حجة عند مثير ممن لا يحتج بالمرس، ولاسيما أنه اعتضد بحديث الحسن عن سمرة. فعلى قوله من يصحح سماع الحسن عن سمرة- فأقل درجاته أنه مرسل صحيح، اعتضد بمرسل صحيح، ومثل هذا يحتج به من يحتج بالمرسل ومن لا يحتج به وقد قدمنا في سورة المائدة كلام العلماء في سماع الحسن عن سمرة، وقدمنا في سورة الأنعام أن مثل هذا المرسل يحتج به بلا خلاف عنه الأئمة الأربعة، فظهر بهذه النصوص أن بيع الحيوان باللحم من جنسه لا يجوز خلافًا لأبي حنيفة، وأما إن كان من غير جنسه كبيع شاة بلحم حوت، أو بيع طير بلحم إبل فهو جائز عند مالك، لأن المزابنة تنتفي باختلاف الجنس، وحمل معنى الحديث على هذا وإن كان ظاهره العلمو، ومذهب الشافعي مع اختلاف الجنس فيه قولان: أحدهما- جواز بيع اللحم بالحيوان إذا اختلف جنسهما، والثاني: المنع مطلقًا لعموم الحديث، ومذهب أحمد في المسألة ذكره ابن قدامة ي المغني بقوله: وأما بيع اللحم بحيوان من غير جنسه فظاهر كلام أحمد والخرقي: أنه لا يجوز. فإن أحمد شئل عن بيع الشاة باللحم فقال: لا يصح، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم: «نهى أن يباع حيّ بميت» واختار القاضي جوازه وللشافعي فيه قولان، واحتج من منعه بعموم الأخبار، وبأن اللحم كله جنس واحد ومن أجازه قال: مال الرب بيع بغير أصله ولا جنسه، فجاز كما لو باعه بالأثمان، وإن باعه بحيوان غير مأكول اللحم جاز في ظاهر قول أصحابنا، وهو قوله عامة الفقهاء- انتهى كلام صاحب المغني-قال مقديه عفا الله عنه: قد عرفت مما تقدم أن بعض العلماء قال: إن اللحم كله جنس واحد، وبعضهم قال: إن اللحوم أجناس، فعلى أن اللحم جنس واحد- فمنع بيع الحيوان باللحم هو الظاهر، وعلى أن اللحوم أجناس مختلفة- فبيع اللحم بحيوان من غير جنسه الظاهر فيه الجواز. لقوله صلى الله عليه وسلم: «فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم» والعلم عند الله تعالى.
تنبيه:
اشترط المالكية في منع بيع الحيان باللحم من جنسه: ألا يكون اللحم مطبوخًا.
فإن كان مطبوخًا جاز عندهم بيعه بالحيوان من جنسه، وهو معنى قول خليل في مختصره، وفسد منهي عنه إلا بدليل كحيوان بلحم جنسه إن لم يطبخ، واحتجوا لذلك بأن الطبخ ينقل اللحم عن جنسه فيجوز التفاضل بينه وبين اللحم الذي لم يطبخ. فبيعه بالحيوان من باب أولى- هكذا يقول والعلم عند الله تعالى.
المسألة الرابعة:
اعلم أن ظاهر هذه الآية الكريمو يد لعلى أنه يجوز للرجل أن يلبس الثوب المكلل باللؤلؤ والمرجان. لأن الله جل وعلا قال فيها في معرض الامتنان العلام على خلقه عاطفًا على الأكل {وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14]، وهذا الخطاب خطاب الذكرو كما هو معروف، ونظير ذلك قوله تعالى في سورة فاطر: {وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر: 12]. قال القرطبي في تفسيره: امتن الله سبحانه على الرجال والنساء امتنانًا عامًا بما يخرج من البحر، فلا يحرم عليهم شيء منه، وإنما حرم تعالى على الرجال الذهب والحرير، وقال صاحب الإنصافك يجوز للرجل والمرأة التحلي بالجوهر ونحوه، وهو الصحيح من المذهب: وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يجوز للرجل أن يلبس الثوب المكلل باللؤلؤ مثلًا، ولا أعلم للتحريم مستندًا إلى عموم الأحاديث الواردة بالزجر البالغ عن تشبه الرجال بالنساء، كالعكس!قال البخاري في صحيحه: (باب المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال): حدثنا محمج بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبيهن من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال». فهذ الحديث نص صريح في أن تشبه الرجال بالنساء حرام، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم لا يلعن أحداَ إلا على ارتكاب حرام شديد الحرمة، ولا شك أن الرجل إذا لبس اللؤلؤ والمرجان فقد تشبه بالنساء. فإن قيل: يجب تقديم الآية على هذا الحديث، وما جرى مجراه من الأحاديث من وجهين:
الأول: أن الآية نص متواتر، والحديث المذكور خبر آحاد، والمتواتر مقدم على الآحاد.
الثاني: أن الحديث عام في كل أنواع التشبه بالنساء، والآي خاصة في إباحة الحلية المستخرجة من البحر، والخاص مقدم على العام؟ فالجواب: أنا لم نر من تعرض لهذا، والذي يظهر لنا والله تعالى أعلم: أن الآية الكريمة وإن كانت أقوى سندًا وأخص في محل النزاع فإن الحديث أقوى دلالة على محل النزاع منها، وقوة الدلالة في نص صالح للاحتجاج على محل النزاع أزحج من قوة السند. لأن قوله: {وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} يحتمل معناه احتمالًا قويًا: أن وجه الامتنان به أن نساءهم يتجملن لهم به، فيكون تلذذهم وتمتعهم بذلك الجمال والزينة الناشىء عن تلك الحلية من نعم الله عليهم.
وإسناد اللباس إلأيهم لنفعهم به، وتلذذهم بلبس أزواجهم له. بخلاف الحديث فهو نص صريح غير محتمل في لعن من تشبه بالنساء، ولا شك أن المتحلي باللؤلؤ مثلًا متشبه بهن. فالحديث يتناوله بلا شك، وقال ابن حجر في فتح الباري في الكلام على الحديث المذكور، واستدل به على أنه يحرك على الرجل لبس الثوب المكلل باللؤلؤ، وهو واضحن لورود علامات التحريم وهو لعن من فعل ذلك-: وأما قول الشافعي: ولا أكره للرجل لبس اللؤلؤ غلا لأنه من زي النساء فليس مخالفًا لذلك. لأن مراده لم يرد في النهي عنه يخصوصه شيء.